فضيحة "غزوة الشفاء"- جيش الاحتلال ينتصر على المستشفيات!

منذ بضعة أشهر، كانت المنطقة على وشك الاحتفال بتنصيب أقوى جيش إقليمي ليضطلع بمهمة حماية المنطقة وإدارتها. كانت الولايات المتحدة تخطط لانسحاب تدريجي وجزئي من المنطقة، لتتمكن من التركيز على التحديات الاستراتيجية الأكبر في منطقة بحر الصين الجنوبي. كانت المنطقة تعاني من أزمات متأصلة ومستمرة، لكنها كانت تحت السيطرة الظاهرية.
ولتحقيق هذا المسعى العظيم، انخرطت الولايات المتحدة الأمريكية على مدى سنوات في برنامج طويل الأمد لإعادة تشكيل المنطقة بما يخدم أهدافها ويحافظ على مصالحها الاستراتيجية الحيوية. فالمنطقة تحتضن ممرات استراتيجية بالغة الأهمية، وتمتلك حصة كبيرة من مصادر الطاقة العالمية الثمينة.
انقلاب على التاريخ
لإنجاز هذه المهمة المعقدة، عملت الولايات المتحدة على جبهات متعددة. فمن ناحية، سعت إلى إنشاء وتعزيز بديل قوي وهو "الكيان الصهيوني"، وقدمت له الدعم اللامحدود بكل الوسائل المتاحة، لتمكينه من ملء الفراغ وقيادة المنطقة بالوكالة. ومن ناحية أخرى، عمدت إلى خلق أعداء وهميين في المنطقة لإبقاء دولها وشعوبها في حاجة مستمرة إلى الحماية.
ومن زاوية ثالثة، كان لابد من تنفيذ برنامج عمل يهدف إلى دمج الكيان في نسيج المنطقة وتنصيبه كمسؤول عن حمايتها بالنيابة، باعتباره الجيش الأقوى والأكثر تجهيزًا في المنطقة، مع فتح قنوات اتصال مباشرة مع القوى العظمى بدون قيود إذا لزم الأمر. فأُطلق مشروع "اتفاقيات أبراهام"، وهو مشروع يتجاوز الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ويتخطى فكرة التطبيع التقليدية، نحو إعادة تعريف المنطقة وبرمجتها على أسس جديدة، ما يمثل انقلابًا جذريًا على تاريخ المنطقة وقيمها الجمعية، لصالح الدولة الوطنية الفردية التي تسعى لتحقيق مصالحها الذاتية بمعزل عن المصالح المشتركة للمنطقة وشعوبها ومستقبلها.
وفي اللحظات التي كانت الولايات المتحدة على وشك الإعلان عن الموعد النهائي للاحتفال بختام المشروع، جاءت معركة 7 أكتوبر/تشرين الأول المظفرة لتقلب الموازين وتحدث تغييرًا جذريًا في المشهد.
من بين أهم الإنجازات التي حققتها هذه الجولة البطولية مع العدو، أنها أثبتت بشكل قاطع هشاشة هذا الجيش الذي يزعم أنه الأقوى في المنطقة، وعجزه عن حماية نفسه، فضلًا عن حماية الآخرين. قد يكون ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول عملية استثنائية، وقد يكون جيش الكيان قد أُخذ على حين غرة واستطاعت المقاومة خداعه، ولكن عجزه على مدار ستة أشهر عن إخضاع قوة عسكرية مقاومة محاصرة في قطاع صغير، وتمتلك أسلحة خفيفة، وتحطيمها كما أعلن في اليوم الأول للعدوان، يمثل فشلًا إستراتيجيًا ذريعًا، خاصة وأنه تلقى دعمًا غير محدود عسكريًا وأمنيًا وسياسيًا ودبلوماسيًا وحماية من الملاحقة من كبرى القوى على المستوى الدولي.
جيش بلا قيم أخلاقية
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أثبت هذا الجيش أنه لا يمتلك أي قيم نبيلة، على عكس ما ادعى دومًا بأنه الجيش الأكثر أخلاقية، وأنه يمثل الخط الأمامي للغرب وقيمه في المنطقة، مما جعله عبئًا حتى على أقرب حلفائه، كما تجلى افتقاره إلى أي قدرات مهنية في إدارة المعارك اليومية. فكل يوم يكشف عن فضيحة جديدة، سواء كانت أخلاقية أو عسكرية أو أمنية، وفي المقابل تلقّنه المقاومة دروسًا قاسية في البطولة والفدائية، وتكبّده الخسائر الموجعة، تاركة ندوبًا عميقة على صورته التي تلطخت بشكل غير مسبوق في تاريخ الصراع. كل هذا جعل هذا الجيش محط سخرية قادة الجيوش والخبراء العسكريين حول العالم.
لنأخذ على سبيل المثال "غزوتي الشفاء": الأولى والثانية للجيش الذي لا يقهر. ففي المرة الأولى، ضخوا كميات هائلة من المواد الدعائية حول العالم، زاعمين أن مستشفى الشفاء هو مركز قيادة العمليات العسكرية للمقاومة وأن العديد من الأنفاق تؤدي إلى المستشفى، وأن عددًا من الأسرى الصهاينة ربما تم إخفاؤهم في المستشفى. واستمروا في الترويج لهذه الأكاذيب لأسابيع، حتى أن الجميع بدأ يصدق هذه الأسطورة المختلقة.
في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، اقتحم الجيش المستشفى بقوة عسكرية كبيرة مدعومة بالدبابات والقصف الجوي، وبقي المستشفى تحت سيطرتهم الكاملة لمدة 45 يومًا، عاثوا خلالها فسادًا وتدميرًا، وقتلوا المرضى والطواقم الطبية والصحفيين، وحاصروا الجميع وحرموهم من الغذاء والماء والدواء، ونبشوا القبور، وأحرقوا الجثث ودهسوها، واعتقلوا المئات من النازحين والعاملين في المستشفى، وحاولوا أثناء وجودهم داخل المستشفى تلفيق بعض الروايات السخيفة التي لم تنطلِ على أحد، مثل وجود أسلحة أو أنفاق في المستشفى.
ففي إحدى المرات، قاموا بتصوير بندقية كلاشنكوف في غرفة الرنين المغناطيسي، في تجاهل تام لحقيقة أن هذا المكان لا يسمح بدخول أي جسم معدني، حتى خاتم الإصبع، خشية جذبه بواسطة المغناطيس الضخم في الجهاز، مما قد يتسبب في بتر الإصبع. وبعد 45 يومًا من الحصار والتدمير والقتل والتعذيب والاعتقال، خرج العدو يجر أذيال الخزي والعار، ولم يحقق سوى المزيد من الجرائم والانتهاكات للقانون الدولي الذي يحرم ويجرم الاعتداء على المنشآت الصحية حتى أثناء الحرب.
قتل وتدمير
ومرة أخرى، قبل أسبوعين، عاود الجيش مهاجمة المستشفى بشكل مفاجئ وحاصره، وبدأ في مسلسل التدمير والحرق والقتل والتعذيب والاعتقال، مستندًا إلى نفس الادعاءات السابقة. ولكن هذه المرة كان الدمار أكبر والقتل أفظع والحرق أوسع، وشمل كل المناطق المحيطة بالمستشفى إلى مسافة مئات الأمتار. وغادر المستشفى بالأمس بعد أن تركه مدمرًا بالكامل وغير قابل للإصلاح، مع وجود مئات الجثث في الطرقات، بعضها تم إعدامه مكبل اليدين ومعصوب العينين، واعتقل المئات من داخل المستشفى ومحيطها، وأعلن مدير المستشفى الدكتور مروان أبو سعدة، وهو يذرف الدموع في مؤتمر صحفي، أن مستشفى الشفاء قد خرج تمامًا عن الخدمة، وأنه غير قابل للإصلاح.
يثور هنا تساؤل هام: ما الذي يفعله جيش بهذه القوة في مستشفى؟ وما هو الإنجاز الاستراتيجي الذي يمكن أن يحققه بما يغير مسار المعركة؟ وما الذي يدفع رئيس هيئة الأركان وقادة الجيش لزيارة المستشفى بأنفسهم رغم الخطر الكبير؟ وما الذي يدفع جيشًا يعتمد في استمرار قدراته على الدعم الدولي إلى ارتكاب كل هذه الفظائع التي ستشوّه صورته حتى أمام حلفائه؟
دون الخوض في الكثير من التفاصيل، لا يوجد أي إنجاز استراتيجي يمكن أن يحققه الجيش في مستشفى الشفاء أو غيره، كما فعل في مستشفى النصر والرنتيسي وناصر والإندونيسي وغيرها. وحتى لو أمضى شهورًا يتحدث عن إنجازاته في "غزوة الشفاء"، مدعيًا أنه اعتقل وقتل المئات من المقاومين وأنه اكتشف الآلاف من الوثائق الخطيرة، فإننا نعلم علم اليقين أن جميع من قتلوا هم من المدنيين الأبرياء، رجالًا ونساءً وأطفالًا، وأن المقاومين الذين قتلوا هم أولئك الذين هبّوا لنجدة أهلهم وذويهم المحاصرين داخل المستشفى وخارجه واستشهد معظمهم في محيط المستشفى.
كيان يلاحقه العار
أبرز ما سيبقى من هذه "الغزوة"، هو أن أقوى جيش في المنطقة تمكن من تعويض هزيمته النكراء وفشله الذريع في 7 أكتوبر/تشرين الأول وفي كل يوم تلاها، بالانتصار على أكبر مستشفى مدني في فلسطين. ما سيبقى هو العار الذي سيلاحق هذا الجيش وقادته عندما يتجرؤون على الأبرياء، فيعدمونهم وهم أحياء مكبلين ومعصوبي الأعين، وعلى الأموات، فينبشون قبورهم ويدنسون حرمة موتاهم.
ما سيبقى هو أن الجيش الذي يدّعي أنه يمتلك اليد الطولى والاستخبارات الأقوى، لا يعرف شيئًا عن ميدان معركة بين قدميه، إلا ما ينتزعه من صدور الأبرياء بعد تعذيبهم بوحشية ثم إعدامهم بدم بارد. ما سيبقى ويخلد في الذاكرة هو أن مستشفى الشفاء وطواقمه الطبية والنازحين إليه من المدنيين صمدوا في وجه أقوى جيش في المنطقة، وأجبروه على الاندحار وهو يجر وراءه أذيال الخيبة والعار.
الأهم من كل ذلك هو أن الجيش الذي لا يقهر غير قادر على حماية كيانه المزعوم، فضلًا عن أن يحمي الآخرين. وأن أقصى ما يستطيع إنجازه هو تدمير المستشفيات والمساجد والمدارس والجامعات وقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وقتل الحياة في كل تجلياتها، انسجامًا مع عقيدته السياسية والعسكرية التي تبناها منذ نشأته المشؤومة، ولكن ما كشف هذا الزيف هو صمود أسطوري لشعب مؤمن بأن "الكف يمكن أن تهزم المخرز"، ونشطاء إعلاميون وهبوا أرواحهم لتوثيق الجريمة بكل تفاصيلها المروعة.
ختامًا؛ هذا الجيش الجبان لم يرتب صفوفه أو يدرب جنوده، منذ نشأته الملطخة بالدماء، على معارك يخوضها شعب متجذر بعمق في الأرض، ورأسه يطاول عنان السماء، ولا يضيره أذى الأقزام مهما كان مؤلمًا.. "سيهزم الجمع ويولون الدبر".
